يقول تعالى في سورة العنكبوت: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
ففي هذه الآية الكريمة يضرب الله عزَّ وجلَّ مثلا للمشركين، فهم لجهلهم بالله، وضعف عقولهم، ومخالفة فطرتهم، وضلالهم عن الحق المبين، إتخذوا من دون الله أولياء، دعوهم، وإستغاثوا بهم، وإستنصروهم، وعوَّلوا عليهم في اللَّجأ المنعة والاحتماء، وهم -أولئك الأولياء- لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا، كما قال عزَّ شأنه: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ*لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} [يس:74-75]، فكان حالهم البائس الأليم {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا}.
يقول ابن جرير: مثلهم في ضعف إحتيالهم وقبح روايتهم وسوء إختيارهم لأنفسهم كمثل العنكبوت في ضعفها وقلَّة إحتيالها لنفسها إتخذت بيتا كيما يكنّها، فلم يغن عنها شيئا عند حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم -حين نزل بهم أمر الله وحلَّ بهم سخطه- أولياؤهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئا.
والتَّشبيه بالعنكبوت في حد ذاته يواكب النسق القرآني في ضرب الأمثال لما لا قيمة له ولا مقدار بكل هين ساقط وضيع، فقد جرى التمثيل للكفرة والجهلة والمعرضين وآلهة المشركين وأضراب ذلك، بالكلب والحمار والحُمر المستنفرة والذباب.
والله عزَّ شأنه لا يستحيِّي أن يضرب هذه الأمثال، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، وكأنَّ القائل الحكيم يقصد بذلك الضرب والتمثيل تقليلا من شأن المشبَّه، وحطًّا من قدره إبتداء، فضلا عن مدلول التَّشبيه وما يؤدِّيه المشبَّه به في إيصال هذا المدلول من كشف للغامض، وتقريب للبعيد، وإيضاح للمبهم.
والعنكبوت حشرة صغيرة من فصيلة العناكب، تنسج أُنثاه شبكة من الخيوط للقبض على فرائسها، وقد عبَّر القرآن عن هذا النسيج الذي تفعله بقوله تعالى: {اتَّخَذَتْ بَيْتًا}، فالإتخاذ دليل على الإنتقاء والإصطفاء، فهي تنسج هذا البيت بدرجة عالية من الحنكة والإجادة والتصميم، ومن خيوط في غاية القوة والمتانة كما يُثبت العلم، فتركن إليه، وتعتمد عليه، فهو مستقرها ومأواها، ومصدر رزقها، لكنَّ بيتها يظل شبكة من الخيوط معلقة على الجدران أو الأغصان، فهو لا يظلُّها من حرٍّ، لا يدفئها من قرٍّ، ولا يقوى على البقاء، ويسهل إزالته بأبسط الأشياء، لأنه قام من أساسه على متعلَّقات واهية.
ووجه الشبه في الأمرين: أنَّ الذين يبحثون عن خالق يعبدونه مثلهم كالذي يملك الخيوط القوية لبناء مستحكم، ولكنَّهم بتوجههم بالعبادة إلى غير الله يكونون كمن ملك مادة البناء القوية ولكنَّها ترسى على أساس واه فلا ينتفع من قوَّتها، ولذلك قال الحكيم الخبير: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ}.
ووهن بيت العنكبوت، قد يكون وهَنًا حسيًّا كما بيَّنَّا، وقد يكون معنويًّا، فالعنكبوت -كما يذكر الدارسون والمختصُّون- حيوان عدواني إنفرادي، يأكل بعضه بعضا، ويقتتل كبارُه وصغارَه وذكرُه وأنثاه، ولا يبقى في بيته إلا الغالب القويُّ الغويُّ، فربما يكون هذا معنى آخر لوهن بيت العنكبوت، وليست هذه المعاني المتجدِّدة المستنبطة بأمر غريب على الكتاب الحكيم الذي لا تنقضي عجائبه.
فإن كان هذا هو حال بيت العنكبوت، فكذلك حال الآلهة الواهية المزيَّفة، فإنها لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تغيث ولا تدفع، ولا تضع ولا ترفع، بل إنَّ بيت العنكبوت في هذا المقام أحسن منها حالا، فهو طول بقائه يجلب لها صيدها، ويحفظ عليها بيضها.
الكاتب: د. تقي الدين بدر موسى.
المصدر: موقع دعوة الأنبياء.